200 يوم على صمود غزّة.. نحن من ربحنا الحرب!

200 يوم على صمود غزّة.. نحن من ربحنا الحرب!

23 ابريل 2024
+ الخط -

نحو 5000 ساعة متواصلة من الحرب من دون توقّف، ومن العدوان الإسرائيلي على غزّة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، عدد كبير من الشهداء، جُلّ ما نعلمه عنه نحو 35 ألف شهيدٍ عرفته الأرقام ومراصد الإحصاء، في حين أن آلاف المفقودين، بين الساعات الأطول من الدهر كلّه، تمرّ عليهم تحت الأنقاض، وبين الرّكام الصعب، وهم يلتقطون آخر أنفاسهم، وأقساها، في الحياة، ثم يموتون، من دون أن يعلم بهم أحد، ونحو 80 ألف جريح، يُكتبون هكذا في نصفِ جملةٍ مُختزلةٍ، من دون تفصيل لكم كسرٍ، وكم جرحٍ، وكم إصابةٍ، وكم بترٍ، وكم حرقٍ، وكم عطلٍ، وكم عجزٍ، ومن دون أن تُحصى أعداد الآهات والصرخات، وليالي الأرق وحمّامات الدم، 5000 ساعة من "وين نروح؟" إلى "وين نروح؟"، ومن النزوحِ بعد النزوح، ومن الجوعِ والعطشِ والاصطفاف في طوابير كلِّ شيء، الأعلاف، والدفن، والجنازات، والعلاج، ودورات المياه!

مائتا يوم ودّعت فيها غزّة أبهى صبيتها، وأجمل فتياتها، وأكفأ رجالها، وأطيب شيوخها، وأحنّ أمهاتها، وأشرس مقاتليها، وأعذب ضحكاتها، وأرقّ بسماتها.. مائتا يوم دفنت فيها غزّة نفسها أكثر من ثلاثين ألف مرّة، وبكت جراحها أكثر من مائة ألف مرّة، وزُلزلت بالقصف مئات آلاف المرات، بملايين القنابل والرصاصات وأطنان المتفجرات والبارود؛ مائتا يومٍ من قيامة كبرى، وطامّة ماحقة، وموتات كثيرة غزيرة، وموكب جماعي للشهداء لم يتوقّف أيّ دقيقة في أيِّ ساعةٍ، في أيِّ يوم، وسرادق عزاء ضخم، هائل، مكتظ بالمعزّين الذين يستقبلون العزاء في أحبابهم في حين أنهم يعزّون الآخرين في أحبابهم، ولا يدري أحدُ الواقفين من يواسي مَن.

مائتا يوم من العذاب، من السعير، من الجحيم، بألوانه كلها على الأرض، بحق جنةٍ في الأرض لم تكن تستحق إلا النعيم لا العناء، ولم تكن تستحق إلا الريّان لا الجفاف، ولم تكن تستحق إلا القطوف الدانية لا اللقيمات بعيدة المنال. مائتا يومٍ من أمرِ الله الذي كان واقعًا لا بدّ منه، لأنّ شعبًا جسورًا كريمًا مغوارًا أراد أن يتنفس قليلًا، أن يقول كلمته، أن يُشعر إسرائيل بدنوّ زوالها، ويشعر العالم بخطرِ وجودها، أن يفرض هو الفصل الأوّل من المعادلة، أن يخطّ بيديه المتعرّقتين الصلبتين معجزةً كاملة، تشمل فرسانًا هابطين من السماء، وملائكةً غائصين في البحر، وأسودًا مطلقةً في البر، وشبه دولةٍ كاملةٍ شعرت بنهايتها على يدِ ألفي إنسان يحملون من العتاد أقلّ مما تحمله كتيبة واحدة في جيش إسرائيل!

ليست الدماء رخيصةً أبدًا، ولا نستطيع التقليل منها مقابل النصر، وإنّما بقدر عزتها وبهظ ثمنها، وحرارة سيلانها، فإنّ النصر كذلك غالٍ وثمين

كلُّ ذلك، كلُّ تلك الخسارات الفادحة، كلُّ تلك الأوجاع الغائرة، في ذلك المشهد الحالي، انتقامًا من السابع من أكتوبر ومحاولةً بائسةً لمحو صورة النصر الراسخة التي وضعها للأبد، كلُّ هؤلاء الذين نزفّهم إلى الجنة كلّ ثانية، كلّ هؤلاء الأطفال الراحلين، وكلّ هؤلاء الأطفال الأيتام، وكلّ ذلك المليون الكبير الذي يبكي المليون الآخر، وكلّ ذلك السواد المسيطر على الواقع الحالي، لا يجعل إنسانًا يشاهد من بعيد يخطئ المعادلة، أو يتجاهل النتائج الحتمية الواقعة والقادمة.

ليست الدماء رخيصةً أبدًا، ولا نستطيع التقليل منها مقابل النصر، وإنّما بقدر عزّتها وبَهْظ ثمنها، وحرارة سيلانها، فإنّ النصر كذلك غالٍ وثمين؛ ربحت غزّة من هذه الحرب الكثير، مما لن تراه الآن، أو لن ترى إلّا بعضًا منه، انتصرت غزّة أمام خمسة وسبعين عامًا من الاحتلال المجرم الذي لم يسأله أحد ماذا تفعل ولماذا تفعل، لكن غزّة ساءلته، ووضعته في قفص الجريمة أمام الإنسان والتاريخ، حتى أمام العدالة الجزئية في محكمتي العدل والجنائية الدولية، غزّة ربحت جيلًا كاملًا، قد تبدو الجملة مكررة أو مبتذلة، لكنّها عين الحقيقة؛ كنّا نظنه الجيل الذي من أصلابنا، في أراضينا المحتلة هي الأخرى، لكن الواقع أنّها ربحت جيل العالم كلّه، كلّ هؤلاء الصغار الجدد، يهتفون فلسطين بلغاتِ العالم كلّها، من مشرق الأرض إلى مغربها، ومن شمالها إلى جنوبها، الجميع صار يعرف غزّة، ويحفظها في صدره، بل صارت جملةً (كانت خياليةً وعربيةً وإسلامية تمامًا قبل ذلك)، تهزّ شوارع العواصم الأوروبية والولايات الأميركية، متحدّيةً كلّ شيء، وهي تقول "فلسطين حرة من البحر إلى النهر"!

ربحت غزّة الرواية، ولأوّل مرة نربح معركة الرواية، ولأوّل مرّة تتقهقر الأكذوبة الإسرائيلية والبروباغندا المزيّفة إلى ذلك الحد، ليست خسارةً من التي تُوضع لها النسبة المئوية، وإنّما نتحدث عن ملايين الفوارق والخوارق، نحن أضحينا في مكانٍ، وهم باتوا في مكانٍ آخر تمامًا، بعيدًا جدًّا، عن عقلِ الإنسان ووعيه وإدراكه.

ربحت غزّة جيل العالم كلّه، كلّ هؤلاء الصغار الجدد، يهتفون فلسطين بلغات العالم كلّها

ربحت غزّة هؤلاء الشبان في أميركا، الذين سيتقلدون مناصب مهمة، وهم خريجو أهم جامعات العالم، التي تخرّج منها الساسة والقادة وصنّاع القرار، ليكونوا أصحاب قرار وليس أصحاب كلمة فقط، ويهدّدون أمن إسرائيل المزعوم كلّه، إن بقي في الأفق شيء اسمه إسرائيل!

ربحت غزّة جيشًا قادمًا، من الصغار أصحاب الثأر النفيس في صدورهم المتسعة الذبيحة، ممن سيحملون السلاح بسواعد مشدودة غير مهتزّة، وممن لا يعرفون هدوءًا ولا رأفة، وممن نما في داخلهم انتقام لم يسمعوه في خطب المنابر ولا خطابات الزعماء، وإنّما عرفوه بعيونهم في الجثامين المتفحمة والمتقطّعة والمكبّلة والمدهوسة، لأغلى أهليهم وأصحابهم وأقربهم، هؤلاء الذين لم يغادر صوت القصف والصياح آذانهم طوال تلك المدّة التي قد تُعادل نسبةً غير قليلة من أعمار بعضهم، لن يذهب الطنين إلّا الطنين، ولن تنعم آذانهم بالهدوء حتى يُسمعوها صرخات موازية، من العالم الآخر الذي دهسهم، ورقص فوق جثثهم على تريندات "تيك توك"، هذا الجيل الآخر الذي سيري العالم كلّه ثأرًا يجعله يدفن رأسه في التراب من فظاعته، وخوفًا من أن يطاوله إن تكلّم نصف كلمة تنقده.

ربحت غزّة فلسطينَ والقدسَ مقدمًا، ربحت فضحَ من باعوهما، وربحت شرعيةَ مقاومتها، وربحت كشف سوءات الذين خانوا وتواطؤوا وطعنوا، وربحت كلمتها الأولى والأخيرة، ربحت غزّة التقويم كلّه، في كلّ السنوات القادمة، وإلى أبدِ الدهر، منذ اليوم الذي ربحت فيها يوم السبت المبارك، الموافق السابع من أكتوبر لعام 2023 ميلاديًّا، الثاني والعشرين من ربيع الأول لعام 1445 هجريًّا.